ملف "اللحظة الشعرية المصرية الراهنة"
البحث عن الشعر... بحث عن الحياة
أسامة كمال
لماذا لا نترك الانسان دون ان نفرض عليه وصايتنا....؟ .. نحن منذ قرون طويلة نحدد له ما هو الشعر ومن هو الشاعر.. دون ان نترك له الحق فى ان يختبر ويختار ويشعر ويتامل اشياءه بنفسه.
منذ طفولتى وانا اشعر ان الشعر ليس له مفهوم او تعريف .. الشعر شعر.. اجده فى كل شىء من ابسط الاشياء الى اعقدها.. اجده فى الطبيعة الصامتة.. وفى زحام الحياة الحديثة.. فى النقاء الانسانى.. وفى الغباء البشرى..
كل شىء يصلح ان يكن شعرا .. لكن المهم ان يكون شعر.. كنت اندهش عند قراءتى للشعر المترجم من شرق اسيا او من اوربا او الامريكتين.. أننى اقع اسير هوى هذه الاشعار رغم تباعد المسافات والافكار والاحلام والرؤى, الا اننى تيقنت ان الشعر هو الوحيد الذى يستطبع تجاوز كل شىء.. واختراق اى شىء.. الشعر له اجنحة يطير بها دون ارادة من احد, ودون تعمد من احد.. الشعر يتجاوز الزمن ولا يأبه بالتاريخ.. الشعر لحظات خارج الزمن تتعدى وتستمر الى الازمان الاخرى. لم يخطىء من ربط بين الشعراء والانبياء, لان الشعراء يستشرفون المستقبل ويتجاوزون الاتى الى افاق لا تنتهى. لذا لم اتوقف يوما امام المعارك الدائرة بين شعراء القصيدة العمودية, وقصيدة التفعيله, وقصيدة النثر. واعتقدت دوما انها معارك مفتعلة وليس لها اى مبرر الا التواجد والحضور.
لان ما يهمنى ليس شكل القصيدة ولكننى ابحث دوما عن الشعر.. ابحث عن ذلك الجوهر الحى للحياة.. ابحث عن ذلك المراوغ الذى لا يكف عن انتاج الدهشة.. ابحث عن ذلك الذى يجعلنا نعيد اكتشاف انفسنا والعالم بشكل جديد ومختلف.
اقف امام اشعار الشعراء الجاهليين وقفة اجلال متنسما عبير الصحراء ومدركا لطلاوة الكلمات, محاورا صامتا لقصائد امرؤ القيس وزهير بن ابى سلمى وعنترة بن شداد.....
واقف مشدوها امام شاعر العربية الكبير المتنبى. اذ كيف استطاع ان يتجاوز يشعره الزمن . ولا اجد تفسيرا الا انه انتج نصا موازيا للحياة, فكثير من ابيات شعره تصل الى الحقائق المجردة من ايسر الطرق وابسطها وعندما نقراها نشعر اننا نعرفها ولكننا نحتاج المتنبى العظيم ليضعها امام قلوبنا، ولو لوقت قليل.
كذلك اشعار ابو العلاء, وابو تمام , وابو نواس ، والبحترى , وبشار بن برد .... وغيرهم من الشعراء القدامى. فمع اشعارهم نستحضر عوالم مختلفة وايضا جميلة.
بدات علاقتى بالشعر كالعادة بالحب وبداية التعلق بالانثى. مثلى كالاف غيرى حاولوا ان يجعلوا من – لحظات خاصة – معانى كبرى. عادة ليس لها اى علاقة بالاثتين المتحابين, وغالبا ما تكون اشعار هذه الفترة نسخ رديئة من عوالم شعرية مقروءة او مسموعة لشعراء فرضتهم المناهج المدرسية فى التعليم المصرى. لكننى فى فترة الدراسة الثانوية عرفت امل دنقل. وما زلت اذكر اعماله الكاملة التى وقعت فى يدى... اذكرها بغلافها الاحمر الذى تتوسطه صورة الشاعر الراحل.. الكتاب لم يكن كتابا عاديا.. بل صار لى انجيلا للحياة والشعر لفترة ليست بالقصيرة.. فالشعر هنا مختلف عما كنت اقرؤه.. الشعر هنا يمس الروح من جانب خفى لا اعرفه. ظللت اتساءل وقتها من اين ياتى الشعر .. وما هو سر جماله الخفى.
ورعم تباعد السنوات الا اننى ما زلت بين الحين والاخر اقرا: الكلمان الاخيرة لسبارتكوس .. البكاء بين يدى زرقاء اليمامة.. الخيول.. الجنوبى.. اغنية الكعكة الحجرية.. وغيرها من اشعار الشاعر الراحل كى استحضر الحالة التى كنت فيها عند اول مرة قرات فبها هذه الاشعار، ولا اصل ابدا الى هذه الحالة. فالسنوات تمر ولا تعود ابدا. ولذة الاكتشاف لا تعادلها الا لذة اكتشاف اخر. وامل دنقل كان اكتشافا لى فى هذه الفترة من العمر , خاصة انه وقتها لم يكن شهيرا تلك الشهرة التى هو عليها الان. فاحسست انه لى وحدى دونا عن البشر .
وفتح – امل – لى الباب على عالم مختلف من الشعر تعددت لذاته واكتشافاته: احمد عبد المعطى حجازى.. صلاح عبد الصبور.. محمود درويش.. ادونيس.. عبدالمنعم رمضان.. محمد سليمان.. عبد الوهاب البياتى.. فؤاد حداد.. الابنودى.. سيد حجاب.. احمد فؤاد نجم.. فؤاد قاعود
ومع هؤلاء الشعراء الكبار لم انحز يوما لشاعر على حساب شاعر اخر, بل وجدت ان لكلا منهم عالم شعرى فريد.. لا نستطيع ان نستعنى بشاعر منهم عن شاعر اخر.. او ان نفضل عالم شعرى هاملين العوالم الشعرية الاخرى.
المهم ان يكون الشاعر له مشروع ابداعى وشعرى وقد تخلص من ارث السابقين عليه ويستطبع ان يحلق بمشروعه وحده دون مساعدة من احد ودون تعمد من احد .
وذلك لاننى ارى الحياة بهذه الصورة. ففى الحياة متسع للجميع.. المهم ان نكون مخلصين لما نحبه, وننفصل عن ذواتنا الضيقة الى رحاب الحياة نفسها.. فالحياة دائما اخصب واكبر واعمق منا مجتمعين.
والحياة لا تخضع لاحد, ولا ترتبط بقوانين ثابتة. هى دائما تتبدل وتتغير ونحن دائما زائلون .
اما الاكتشاف الاهم فى حياتى فكان قصيدة النثر ...وللاكتشاف قصة . فقد التحقت بكلية الاداب جامعة القاهرة عام 1989، وفى قسم اللغة العربية تتلمذت على د. جابر عصفور .. د. نصر حامد ابو زيد .. د. سيد البحراوى .. د.شمس الدين حجاجى واستاذهم عبد المحسن طه بدر الذى توفى وانا ما زلت فى العام الاول من دراستى . وقد اثر هؤلاء الاساتذة فى تفكيرى تاثيرا بالغا لبس فى مجال الادب فحسب ، لكن فى طريقة ومنهج التفكير , فقد تعلمت منهم التفكير النقدى الذى يقدس العقل ويمنحه حقه فى الاختيار والحياة , لكن لخجلى الذائد وقتها لم اقترب منهم اقترابا يسمح لى بالتواصل الحميم بين طالب واساتذته واكتفيت بما درسته وقراته عليهم . كذلك لاننى فى هذا الوقت كنت مهموما يقضايا الوطن ، فاقتربت من كل الفصائل السياسية كى اناقش واعرف و اختار الطريق .. اقتربت من الجماعات الدينية وحال بينى وبينهم – عقلى – الذى لا يكف عن طرح الاسئلة .. وعقولهم التى بها اجابة واحدة لا تتغير او تتيدل .
الى ان حدثت مظاهرات عام 1990 التى قادها فى البدابة رابطة الطلاب الاشتراكيين , والتى جمعت فصائل اليسار المصرى : الناصرى والاشتراكى والماركسى. ولا زلت اذكر هذا اليوم الذى جاءنى فبه زميلى فى غرفة المدينة الجامعية قائلا لى : .. الجامعة مقلوبة .. فاجبته : اكيد جماعات دينية .. فرد: طلبة عاديين لابسيين قميص وبنطلون.. فارتديت ملابسى وهرولت الى الجامعة . فوجدت ما لم اكن اتصور .الجامعة كلها ثائرةمن أقصاها الى اقصاها , واصوات الطلاب الثائرين ترج فى .. قبة الجامعة.. الساعة .. المكتبة المركزية.. مبانى الكليات .. الاداب .. الحقوق .. التجارة .. العلوم .. الاثار .. دار العلوم .
تنسمت رائحة لم اتنسمها من قبل . ربما تنسمت رائحة الحرية .اعرف ان الحرية ليست لها رائحة, لكننا احيانا نتنسم أشياءا نحلم بها ولا نجدها , وتختفى بعد ان ينتهى الموقف الذى تنسمناه فيها .لذلك لم اتنسم بعد ذلك تلك الرائحة ابدا.
ورغم اننى لم اكن مع الطلبة الثائرين فى موقفهم ، ولم اكن بالطبع ضدهم فالقضية ملتبسة . ديكتاتور عربى غزا بلدا مجاورا فاجتمعت عليه قوى الامبريالية العالمية مستغلة تصرفه الطائش بالدخول الى المنطقة وفرض شروطها واهدافها ومخططاتها لتعيد رسم خريطة المنطقة من جديد .
فانا لست مع الديكتاتورية التى افرزت لنا حاكما مثل صدام حسين , وانا ضد الامبريالية العالمية التى تحاول السيطرة على مقدرات العالم الثالث والقضاء على اى حكومات وطنية يكون غرضها الاساسى الاستقلال والحرية للمواطنين البسطاء.
لكننى كنت فى حاجة الى حضور هذا المشهد الذى لا يتكرر كثيرا . جموع من الطلاب الصغار السن يثورون فى وجه كل الحكومات العربية. ولن انسى ما حييت لحظات الانتشاء الانسانى التى غمرتنى وانا اشارك الطلاب ثورتهم خاصة عند خروجنا من باب الجامعة الى الشوارع ملتحمين بالجماهير , الذين شاركونا المظاهرات . فقداحسست فى احايين عديدة ان المشاركين ليسوا بشرا عاديين . لقد خرجوا من ذواتهم وحلقت ارواحهم بعيدا عن الارض . هم فى لحظة تجمع بين الرفض والحب.. الرفض لدخول قوات اجنبية الى المنطقة .. وحب ان يقولوا لا .. لانهم فى حياتهم العادية تعودوا ان يقولوا نعم لكل من يملك عليهم سلطة سواء فى البيت او الدراسة او العمل .تزامن ذلك مع ظهور مجلات ادبية وفكرية ذات شكل جديد ومختلف : مجلة ابداع برئاسة الشاعر احمد عبد المعطى حجازى .. مجلة القاهرة برئاسة د. غالى شكرى .. مجلة فصول برئاسة د. جابر عصفور , وكان لهذه المجلات الثلاث ابلغ الاثر فى تكوينى الفكرى والثقافى والادبى . فلا زلت اتذكر القصائد الثلاث الفائزة فى مسابقة رامبو للابداع الشعرى, التى اجرتهامجلة ابداع , والقصائد كانت للشعراء احمد يمانى و محمد متولى ,هالة لطفى . فور ان قرات القصائد الثلاث حتى انتابتنى قشعريرة الاكتشاف لعالم من الشعر كنت اتمناه وابحث عنه.. عالم لا يابه بشىء الا الشعر.. الشعر الخالص الذى يستطيع ان يحلق بعيدا دون حائل او مانع .
ايضا ما زلت اذكر تصدى المجلات الثلاث لظاهرة التطرف الدينى ،واعتبارها القضية الاساس فى تلك الفترة , وايضا الدفاع عن الدكتور نصر حامد ابو زيد فى قضيته الشهيرة مع د. عبد الصبور شاهين، والتى انتهت بفاجعة ترك الكتور نصر ابوزيد لمصر وذهابه الى هولندا .
لكن توقف ذلك الزخم فجأة بعودتى الى بورسعيد مدينتى . فانفصلت روحى عن جسدى بقت روحى فى القاهرة.. وعاش جسدى فى بورسعيد . وتحول ذلك الزخم الى مجرد ومضات للروح اتذكرها بين الحين والاخر .
الى ان التقيت ببعض من مثقفى بورسعيد وشعرائها . اذكر منهم احمد عبد الحميد ، محمد السلامونى ، صلاح زكريا , ابراهيم ابو حجة ، محمد النادى . وكانوا يمثلون (جيل الثمانينات) فى الكتابة ببورسعيد .
ورغم اننى لا افضل تقسيم الاجيال تبعا لسنوات ابداعهم، الا اننى لم اجد تصنيفا اخر اصنفهم به ،خاصة ان جيل الثمانينات له ملامح مشتركة فى مصر كلها . فقد بدأ بدايات متألقة جدا واختفى اختفاءا غريبا . ربما لظروف النشر التى كانت مقتصرة على عدد محدود من الدوريات الادبية. ربما لوقوعهم بين جيلين لهم عوالم واضحة ومكتملة: جيل السبعينات برموزه المعروفة عبد النعم رمضان ، حسن طلب , حلمى سالم ، جمال القصاص ، محمد سليمان .... وجيل التسعينات الذى يسود الساحة الابداعية فى لحظتنا الراهنة .
وارتبطت بهؤلاء الخمسة ارتباطا حميما ، خاصة الشاعر احمد عبد الحميد المولع بالتجارب المختلفة والابدعات التى تخط طريقها بعيدا عن المؤسسات الثقافية وتحاول ان تخلق عالما ابداعيا مغايرا لكل ما هو سائد ومستقر ، وقرانا معا مجلات الكتابة الاخرى التى حررها هشام قشطة ومجلتى الجراد والفعل الشعرى لاحمد طه وامجد ريان . وتيقنا ان طريقا اخر فى كتابة الشعر بدات معالمه، وان قصيدة النثر فى طريقها لتتبوأ صدارة المشهد الشعر .
لكننى فى هذا الوقت كنت اطمح الى كتابة (نص) ادبى يتجاوز المفاهيم الكلاسيكية المعتادة _ قصة وشعر ورواية- نص تجد فيه كل هذه النواع الادبية مع افادته بالسينما. ذلك الفن المدهش الذى استطاع ان يتجاوز الفنون المقروءة خاصة بعد تطور التقنيات الحديثة. فاستطاع ان يصل الى روح الشعر- والمسكوت عنه - فى القصة والرواية الى جانب استيعابه للفنون التشكيلية من رسم ونحت وتصوير.
لذلك لم اكن مندهشا عند طغيان الصورة فى الواقع الحديث، وتحولها الى لغة الفن والثقافة والحياة . وبدات الكتابة وارسلت قصاصات اوراقى الى الناقد الكبير محمود امين العالم وفاجأنى برده على رسالتى بكلمات ما زلت اذكرها: لا شعارك عطر خاص ,وايقاع خاص، وتمرد خاص .
ورغم حزنى وقتها لاننى كنت اطمح الى كتابة نص يتجاوز التصنيفات المعتادة الا اننى الان تاكدت ان الشعر روح كل الاشياء وسر الجمال الوحيد فى الحياة. وطبعت كتابى الاول كمجموعة من القصص القصائد. الذى تزامن للاسف مع مرورى بحالة احسست فيها بعدم جدوى الحياة وعبثها. وقبعت داخل ذاتى فترة ليست بالقليلة. لكننى استطعت الان الخروج بعد ان زالت الاسباب. وكل ما احاوله الان ان اجعل الكتابة فعل يومى لانها هى بالفعل.... الحياة.
أسامة كمال
البحث عن الشعر... بحث عن الحياة
أسامة كمال
لماذا لا نترك الانسان دون ان نفرض عليه وصايتنا....؟ .. نحن منذ قرون طويلة نحدد له ما هو الشعر ومن هو الشاعر.. دون ان نترك له الحق فى ان يختبر ويختار ويشعر ويتامل اشياءه بنفسه.
منذ طفولتى وانا اشعر ان الشعر ليس له مفهوم او تعريف .. الشعر شعر.. اجده فى كل شىء من ابسط الاشياء الى اعقدها.. اجده فى الطبيعة الصامتة.. وفى زحام الحياة الحديثة.. فى النقاء الانسانى.. وفى الغباء البشرى..
كل شىء يصلح ان يكن شعرا .. لكن المهم ان يكون شعر.. كنت اندهش عند قراءتى للشعر المترجم من شرق اسيا او من اوربا او الامريكتين.. أننى اقع اسير هوى هذه الاشعار رغم تباعد المسافات والافكار والاحلام والرؤى, الا اننى تيقنت ان الشعر هو الوحيد الذى يستطبع تجاوز كل شىء.. واختراق اى شىء.. الشعر له اجنحة يطير بها دون ارادة من احد, ودون تعمد من احد.. الشعر يتجاوز الزمن ولا يأبه بالتاريخ.. الشعر لحظات خارج الزمن تتعدى وتستمر الى الازمان الاخرى. لم يخطىء من ربط بين الشعراء والانبياء, لان الشعراء يستشرفون المستقبل ويتجاوزون الاتى الى افاق لا تنتهى. لذا لم اتوقف يوما امام المعارك الدائرة بين شعراء القصيدة العمودية, وقصيدة التفعيله, وقصيدة النثر. واعتقدت دوما انها معارك مفتعلة وليس لها اى مبرر الا التواجد والحضور.
لان ما يهمنى ليس شكل القصيدة ولكننى ابحث دوما عن الشعر.. ابحث عن ذلك الجوهر الحى للحياة.. ابحث عن ذلك المراوغ الذى لا يكف عن انتاج الدهشة.. ابحث عن ذلك الذى يجعلنا نعيد اكتشاف انفسنا والعالم بشكل جديد ومختلف.
اقف امام اشعار الشعراء الجاهليين وقفة اجلال متنسما عبير الصحراء ومدركا لطلاوة الكلمات, محاورا صامتا لقصائد امرؤ القيس وزهير بن ابى سلمى وعنترة بن شداد.....
واقف مشدوها امام شاعر العربية الكبير المتنبى. اذ كيف استطاع ان يتجاوز يشعره الزمن . ولا اجد تفسيرا الا انه انتج نصا موازيا للحياة, فكثير من ابيات شعره تصل الى الحقائق المجردة من ايسر الطرق وابسطها وعندما نقراها نشعر اننا نعرفها ولكننا نحتاج المتنبى العظيم ليضعها امام قلوبنا، ولو لوقت قليل.
كذلك اشعار ابو العلاء, وابو تمام , وابو نواس ، والبحترى , وبشار بن برد .... وغيرهم من الشعراء القدامى. فمع اشعارهم نستحضر عوالم مختلفة وايضا جميلة.
بدات علاقتى بالشعر كالعادة بالحب وبداية التعلق بالانثى. مثلى كالاف غيرى حاولوا ان يجعلوا من – لحظات خاصة – معانى كبرى. عادة ليس لها اى علاقة بالاثتين المتحابين, وغالبا ما تكون اشعار هذه الفترة نسخ رديئة من عوالم شعرية مقروءة او مسموعة لشعراء فرضتهم المناهج المدرسية فى التعليم المصرى. لكننى فى فترة الدراسة الثانوية عرفت امل دنقل. وما زلت اذكر اعماله الكاملة التى وقعت فى يدى... اذكرها بغلافها الاحمر الذى تتوسطه صورة الشاعر الراحل.. الكتاب لم يكن كتابا عاديا.. بل صار لى انجيلا للحياة والشعر لفترة ليست بالقصيرة.. فالشعر هنا مختلف عما كنت اقرؤه.. الشعر هنا يمس الروح من جانب خفى لا اعرفه. ظللت اتساءل وقتها من اين ياتى الشعر .. وما هو سر جماله الخفى.
ورعم تباعد السنوات الا اننى ما زلت بين الحين والاخر اقرا: الكلمان الاخيرة لسبارتكوس .. البكاء بين يدى زرقاء اليمامة.. الخيول.. الجنوبى.. اغنية الكعكة الحجرية.. وغيرها من اشعار الشاعر الراحل كى استحضر الحالة التى كنت فيها عند اول مرة قرات فبها هذه الاشعار، ولا اصل ابدا الى هذه الحالة. فالسنوات تمر ولا تعود ابدا. ولذة الاكتشاف لا تعادلها الا لذة اكتشاف اخر. وامل دنقل كان اكتشافا لى فى هذه الفترة من العمر , خاصة انه وقتها لم يكن شهيرا تلك الشهرة التى هو عليها الان. فاحسست انه لى وحدى دونا عن البشر .
وفتح – امل – لى الباب على عالم مختلف من الشعر تعددت لذاته واكتشافاته: احمد عبد المعطى حجازى.. صلاح عبد الصبور.. محمود درويش.. ادونيس.. عبدالمنعم رمضان.. محمد سليمان.. عبد الوهاب البياتى.. فؤاد حداد.. الابنودى.. سيد حجاب.. احمد فؤاد نجم.. فؤاد قاعود
ومع هؤلاء الشعراء الكبار لم انحز يوما لشاعر على حساب شاعر اخر, بل وجدت ان لكلا منهم عالم شعرى فريد.. لا نستطيع ان نستعنى بشاعر منهم عن شاعر اخر.. او ان نفضل عالم شعرى هاملين العوالم الشعرية الاخرى.
المهم ان يكون الشاعر له مشروع ابداعى وشعرى وقد تخلص من ارث السابقين عليه ويستطبع ان يحلق بمشروعه وحده دون مساعدة من احد ودون تعمد من احد .
وذلك لاننى ارى الحياة بهذه الصورة. ففى الحياة متسع للجميع.. المهم ان نكون مخلصين لما نحبه, وننفصل عن ذواتنا الضيقة الى رحاب الحياة نفسها.. فالحياة دائما اخصب واكبر واعمق منا مجتمعين.
والحياة لا تخضع لاحد, ولا ترتبط بقوانين ثابتة. هى دائما تتبدل وتتغير ونحن دائما زائلون .
اما الاكتشاف الاهم فى حياتى فكان قصيدة النثر ...وللاكتشاف قصة . فقد التحقت بكلية الاداب جامعة القاهرة عام 1989، وفى قسم اللغة العربية تتلمذت على د. جابر عصفور .. د. نصر حامد ابو زيد .. د. سيد البحراوى .. د.شمس الدين حجاجى واستاذهم عبد المحسن طه بدر الذى توفى وانا ما زلت فى العام الاول من دراستى . وقد اثر هؤلاء الاساتذة فى تفكيرى تاثيرا بالغا لبس فى مجال الادب فحسب ، لكن فى طريقة ومنهج التفكير , فقد تعلمت منهم التفكير النقدى الذى يقدس العقل ويمنحه حقه فى الاختيار والحياة , لكن لخجلى الذائد وقتها لم اقترب منهم اقترابا يسمح لى بالتواصل الحميم بين طالب واساتذته واكتفيت بما درسته وقراته عليهم . كذلك لاننى فى هذا الوقت كنت مهموما يقضايا الوطن ، فاقتربت من كل الفصائل السياسية كى اناقش واعرف و اختار الطريق .. اقتربت من الجماعات الدينية وحال بينى وبينهم – عقلى – الذى لا يكف عن طرح الاسئلة .. وعقولهم التى بها اجابة واحدة لا تتغير او تتيدل .
الى ان حدثت مظاهرات عام 1990 التى قادها فى البدابة رابطة الطلاب الاشتراكيين , والتى جمعت فصائل اليسار المصرى : الناصرى والاشتراكى والماركسى. ولا زلت اذكر هذا اليوم الذى جاءنى فبه زميلى فى غرفة المدينة الجامعية قائلا لى : .. الجامعة مقلوبة .. فاجبته : اكيد جماعات دينية .. فرد: طلبة عاديين لابسيين قميص وبنطلون.. فارتديت ملابسى وهرولت الى الجامعة . فوجدت ما لم اكن اتصور .الجامعة كلها ثائرةمن أقصاها الى اقصاها , واصوات الطلاب الثائرين ترج فى .. قبة الجامعة.. الساعة .. المكتبة المركزية.. مبانى الكليات .. الاداب .. الحقوق .. التجارة .. العلوم .. الاثار .. دار العلوم .
تنسمت رائحة لم اتنسمها من قبل . ربما تنسمت رائحة الحرية .اعرف ان الحرية ليست لها رائحة, لكننا احيانا نتنسم أشياءا نحلم بها ولا نجدها , وتختفى بعد ان ينتهى الموقف الذى تنسمناه فيها .لذلك لم اتنسم بعد ذلك تلك الرائحة ابدا.
ورغم اننى لم اكن مع الطلبة الثائرين فى موقفهم ، ولم اكن بالطبع ضدهم فالقضية ملتبسة . ديكتاتور عربى غزا بلدا مجاورا فاجتمعت عليه قوى الامبريالية العالمية مستغلة تصرفه الطائش بالدخول الى المنطقة وفرض شروطها واهدافها ومخططاتها لتعيد رسم خريطة المنطقة من جديد .
فانا لست مع الديكتاتورية التى افرزت لنا حاكما مثل صدام حسين , وانا ضد الامبريالية العالمية التى تحاول السيطرة على مقدرات العالم الثالث والقضاء على اى حكومات وطنية يكون غرضها الاساسى الاستقلال والحرية للمواطنين البسطاء.
لكننى كنت فى حاجة الى حضور هذا المشهد الذى لا يتكرر كثيرا . جموع من الطلاب الصغار السن يثورون فى وجه كل الحكومات العربية. ولن انسى ما حييت لحظات الانتشاء الانسانى التى غمرتنى وانا اشارك الطلاب ثورتهم خاصة عند خروجنا من باب الجامعة الى الشوارع ملتحمين بالجماهير , الذين شاركونا المظاهرات . فقداحسست فى احايين عديدة ان المشاركين ليسوا بشرا عاديين . لقد خرجوا من ذواتهم وحلقت ارواحهم بعيدا عن الارض . هم فى لحظة تجمع بين الرفض والحب.. الرفض لدخول قوات اجنبية الى المنطقة .. وحب ان يقولوا لا .. لانهم فى حياتهم العادية تعودوا ان يقولوا نعم لكل من يملك عليهم سلطة سواء فى البيت او الدراسة او العمل .تزامن ذلك مع ظهور مجلات ادبية وفكرية ذات شكل جديد ومختلف : مجلة ابداع برئاسة الشاعر احمد عبد المعطى حجازى .. مجلة القاهرة برئاسة د. غالى شكرى .. مجلة فصول برئاسة د. جابر عصفور , وكان لهذه المجلات الثلاث ابلغ الاثر فى تكوينى الفكرى والثقافى والادبى . فلا زلت اتذكر القصائد الثلاث الفائزة فى مسابقة رامبو للابداع الشعرى, التى اجرتهامجلة ابداع , والقصائد كانت للشعراء احمد يمانى و محمد متولى ,هالة لطفى . فور ان قرات القصائد الثلاث حتى انتابتنى قشعريرة الاكتشاف لعالم من الشعر كنت اتمناه وابحث عنه.. عالم لا يابه بشىء الا الشعر.. الشعر الخالص الذى يستطيع ان يحلق بعيدا دون حائل او مانع .
ايضا ما زلت اذكر تصدى المجلات الثلاث لظاهرة التطرف الدينى ،واعتبارها القضية الاساس فى تلك الفترة , وايضا الدفاع عن الدكتور نصر حامد ابو زيد فى قضيته الشهيرة مع د. عبد الصبور شاهين، والتى انتهت بفاجعة ترك الكتور نصر ابوزيد لمصر وذهابه الى هولندا .
لكن توقف ذلك الزخم فجأة بعودتى الى بورسعيد مدينتى . فانفصلت روحى عن جسدى بقت روحى فى القاهرة.. وعاش جسدى فى بورسعيد . وتحول ذلك الزخم الى مجرد ومضات للروح اتذكرها بين الحين والاخر .
الى ان التقيت ببعض من مثقفى بورسعيد وشعرائها . اذكر منهم احمد عبد الحميد ، محمد السلامونى ، صلاح زكريا , ابراهيم ابو حجة ، محمد النادى . وكانوا يمثلون (جيل الثمانينات) فى الكتابة ببورسعيد .
ورغم اننى لا افضل تقسيم الاجيال تبعا لسنوات ابداعهم، الا اننى لم اجد تصنيفا اخر اصنفهم به ،خاصة ان جيل الثمانينات له ملامح مشتركة فى مصر كلها . فقد بدأ بدايات متألقة جدا واختفى اختفاءا غريبا . ربما لظروف النشر التى كانت مقتصرة على عدد محدود من الدوريات الادبية. ربما لوقوعهم بين جيلين لهم عوالم واضحة ومكتملة: جيل السبعينات برموزه المعروفة عبد النعم رمضان ، حسن طلب , حلمى سالم ، جمال القصاص ، محمد سليمان .... وجيل التسعينات الذى يسود الساحة الابداعية فى لحظتنا الراهنة .
وارتبطت بهؤلاء الخمسة ارتباطا حميما ، خاصة الشاعر احمد عبد الحميد المولع بالتجارب المختلفة والابدعات التى تخط طريقها بعيدا عن المؤسسات الثقافية وتحاول ان تخلق عالما ابداعيا مغايرا لكل ما هو سائد ومستقر ، وقرانا معا مجلات الكتابة الاخرى التى حررها هشام قشطة ومجلتى الجراد والفعل الشعرى لاحمد طه وامجد ريان . وتيقنا ان طريقا اخر فى كتابة الشعر بدات معالمه، وان قصيدة النثر فى طريقها لتتبوأ صدارة المشهد الشعر .
لكننى فى هذا الوقت كنت اطمح الى كتابة (نص) ادبى يتجاوز المفاهيم الكلاسيكية المعتادة _ قصة وشعر ورواية- نص تجد فيه كل هذه النواع الادبية مع افادته بالسينما. ذلك الفن المدهش الذى استطاع ان يتجاوز الفنون المقروءة خاصة بعد تطور التقنيات الحديثة. فاستطاع ان يصل الى روح الشعر- والمسكوت عنه - فى القصة والرواية الى جانب استيعابه للفنون التشكيلية من رسم ونحت وتصوير.
لذلك لم اكن مندهشا عند طغيان الصورة فى الواقع الحديث، وتحولها الى لغة الفن والثقافة والحياة . وبدات الكتابة وارسلت قصاصات اوراقى الى الناقد الكبير محمود امين العالم وفاجأنى برده على رسالتى بكلمات ما زلت اذكرها: لا شعارك عطر خاص ,وايقاع خاص، وتمرد خاص .
ورغم حزنى وقتها لاننى كنت اطمح الى كتابة نص يتجاوز التصنيفات المعتادة الا اننى الان تاكدت ان الشعر روح كل الاشياء وسر الجمال الوحيد فى الحياة. وطبعت كتابى الاول كمجموعة من القصص القصائد. الذى تزامن للاسف مع مرورى بحالة احسست فيها بعدم جدوى الحياة وعبثها. وقبعت داخل ذاتى فترة ليست بالقليلة. لكننى استطعت الان الخروج بعد ان زالت الاسباب. وكل ما احاوله الان ان اجعل الكتابة فعل يومى لانها هى بالفعل.... الحياة.
أسامة كمال
الأربعاء سبتمبر 28, 2011 11:22 am من طرف ANGEL__LOVE
» ترحيب اذ سمحتو
الجمعة سبتمبر 09, 2011 9:37 am من طرف ANGEL__LOVE
» قصة سيدنا عزير
الأربعاء أغسطس 24, 2011 12:01 pm من طرف assassins
» قصة سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم
الأربعاء أغسطس 24, 2011 11:46 am من طرف assassins
» احلى عجائب الدنيا
الأربعاء أغسطس 24, 2011 11:40 am من طرف assassins
» نيزار قباني
الأربعاء أغسطس 24, 2011 11:19 am من طرف assassins
» بدي ترحيبو
الأربعاء أغسطس 24, 2011 9:08 am من طرف assassins
» كل عام وانتم بخير
الأربعاء أغسطس 24, 2011 8:02 am من طرف assassins
» قصص لسيدنا يوسف
الأربعاء أغسطس 24, 2011 7:57 am من طرف assassins